فصل: النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ:

أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ خَلَائِقُ‏: مِنْهُمُ الْخَطَّابِيُّ وَالرُّمَّانِيُّ وَالزَّمَلْكَانِيُّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيُّ وَابْنُ سُرَاقَةَ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ‏، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ: وَلَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُ كِتَابِهِ‏.
اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَعْرِيفُهَا أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ مَقْرُونٌ بِالتَّحَدِّي سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَهِيَ إِمَّا حِسِّيَّةٌ وَإِمَّا عَقْلِيَّةٌ‏:
وَأَكْثَرُ مُعْجِزَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ حِسِّيَّةً لِبَلَادَتِهِمْ وَقِلَّةِ بَصِيرَتِهِمْ، وَأَكْثَرُ مُعْجِزَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَقْلِيَّةٌ لِفَرْطِ ذَكَائِهِمْ، وَكَمَالِ أَفْهَامِهِمْ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ لَمَّا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى صَفَحَاتِ الدَّهْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ خُصَّتْ بِالْمُعْجِزَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْبَاقِيَةِ لِيَرَاهَا ذَوُو الْبَصَائِرِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيَتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ‏.
قِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ‏: أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ انْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِ أَعْصَارِهِمْ فَلَمْ يُشَاهِدْهَا إِلَّا مَنْ حَضَرَهَا، وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَخَرْقُهُ الْعَادَةَ فِي أُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَإِخْبَارِهِ بِالْمُغَيَّبَاتِ، فَلَا يَمُرُّ عَصْرٌ مِنَ الْأَعْصَارِ إِلَّا وَيَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ‏.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةَ الْمَاضِيَةَ كَانَتْ حِسِّيَّةً تُشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ، كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى، وَمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ تُشَاهَدُ بِالْبَصِيرَةِ فَيَكُونُ مَنْ يَتْبَعُهُ لِأَجْلِهَا أَكْثَرَ، لِأَنَّ الَّذِي يُشَاهَدُ بِعَيْنِ الرَّأْسِ يَنْقَرِضُ بِانْقِرَاضِ مُشَاهِدِهِ، وَالَّذِي يُشَاهَدُ بِعَيْنِ الْعَقْلِ بَاقٍ، يُشَاهِدُهُ كُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ الْأَوَّلِ مُسْتَمِرًّا‏.
قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي‏: وَيُمْكِنُ نَظْمُ الْقَوْلَيْنِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ مُحَصِّلَهُمَا لَا يُنَافِي بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى مُعْجِزٌ لَمْ يَقْدِرْ وَاحِدٌ عَلَى مُعَارَضَتِهِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ بِذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التَّوْبَة: 6]. فَلَوْلَا أَنَّ سَمَاعَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَمْ يَقِفْ أَمْرُهُ عَلَى سَمَاعِهِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا وَهُوَ مُعْجِزَةٌ‏.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [الْعَنْكَبُوت: 50، 51]. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْكِتَابَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ، قَائِمٌ مَقَامَ مُعْجِزَاتِ غَيْرِهِ وَآيَاتِ مَنْ سِوَاهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا أَفْصَحَ الْفُصَحَاءِ وَمَصَاقِعَ الْخُطَبَاءِ، وَتَحَدَّاهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَأَمْهَلَهُمْ طُولَ السِّنِينَ فَلَمْ يَقْدِرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [يُونُسَ: 38] ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هُودٍ: 13، 14]. ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ فِي قَوْلِه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} الْآيَةَ [يُونُسَ: 38]، ثُمَّ كَرَّرَ فِي قَوْلِه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 23]، فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ تُشْبِهُهُ عَلَى كَثْرَةِ الْخُطَبَاءِ وَالْبُلَغَاءِ نَادَى عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ الْعَجْزِ، وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الْإِسْرَاء: 88].
هَذَا وَهُمُ الْفُصَحَاءُ اللُّدُّ، وَقَدْ كَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى إِطْفَاءِ نُورِهِ وَإِخْفَاءِ أَمْرِهِ، فَلَوْ كَانَ فِي مَقْدِرَتِهِمْ مُعَارَضَتُهُ لَعَدَلُوا إِلَيْهَا قَطْعًا لِلْحُجَّةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا رَامَهُ، بَلْ عَدَلُوا إِلَى الْعِنَادِ تَارَةً، وَإِلَى الِاسْتِهْزَاءِ أُخْرَى، فَتَارَةً قَالُوا: سِحْرٌ، وَتَارَةً قَالُوا: شِعْرٌ، وَتَارَةً قَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. كُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّحَيُّرِ وَالِانْقِطَاعِ ثُمَّ رَضُوا بِتَحْكِيمِ السَّيْفِ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وَحَرَمِهِمْ وَاسْتِبَاحَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ كَانُوا آنَفَ شَيْءٍ، وَأَشُدَّهُ حَمِيَّةً فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ فِي قُدْرَتِهِمْ لَبَادَرُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ‏.
كَيْفَ وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏: جَاءَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ‏: يَا عَمِّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ‏: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ‏: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قَالَ‏: وَمَاذَا أَقُولُ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ مِنِّي، وَلَا بِرَجَزِهِ، وَلَا بِقَصِيدِهِ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لِمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ. قَالَ‏: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ قَالَ‏: دَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ‏: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يَأْثُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ‏.
قَالَ الْجَاحِظُ‏: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ شَاعِرًا وَخَطِيبًا، وَأَحْكَمَ مَا كَانَتْ لُغَةً وَأَشَدَّ مَا كَانَتْ عُدَّةً، فَدَعَا أَقْصَاهَا وَأَدْنَاهَا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ رِسَالَتِهِ، فَدَعَاهُمْ بِالْحُجَّةِ فَلَمَّا قَطَعَ الْعُذْرَ، وَأَزَالَ الشُّبْهَةَ وَصَارَ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةُ، دُونَ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ، حَمَلَهُمْ عَلَى حَظِّهِمْ بِالسَّيْفِ، فَنَصَبَ لَهُمُ الْحَرْبَ وَنَصَبُوا لَهُ، وَقَتَلَ مِنْ عِلْيَتِهِمْ وَأَعْلَامِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَبَنِي أَعْمَامِهِمْ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ، وَيَدْعُوهُمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً إِلَى أَنْ يُعَارِضُوهُ إِنْ كَانَ كَاذِبًا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بِآيَاتٍ يَسِيرَةٍ.
فَكُلَّمَا ازْدَادَ تَحَدِّيًا لَهُمْ بِهَا وَتَقْرِيعًا لِعَجْزِهِمْ عَنْهَا تَكَشَّفَ مِنْ نَقْصِهِمْ مَا كَانَ مَسْتُورًا، وَظَهَرَ مِنْهُ مَا كَانَ خَفِيًّا، فَحِينَ لَمْ يَجِدُوا حِيلَةً وَلَا حُجَّةً قَالُوا لَهُ‏: أَنْتَ تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ مَا لَا نَعْرِفُ، فَلِذَلِكَ يُمْكِنُكَ مَا لَا يُمْكِنُنَا قَالَ‏: فَهَاتُوهَا مُفْتَرِيَاتٍ فَلَمْ يَرُمْ ذَلِكَ خَطِيبٌ وَلَا طَمَعَ فِيهِ شَاعِرٌ، وَلَوْ طَمَعَ فِيهِ لَتَكَلَّفَهُ، وَلَوْ تَكَلَّفَهُ لَظَهَرَ ذَلِكَ وَلَوْ ظَهَرَ لَوَجَدَ مَنْ يَسْتَجِيدُهُ وَيُحَامِي عَلَيْهِ، وَيُكَايِدُ فِيهِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ عَارَضَ وَقَابَلَ وَنَاقَضَ.
فَدَلَّ ذَلِكَ الْعَاقِلُ عَلَى عَجْزِ الْقَوْمِ مَعَ كَثْرَةِ كَلَامِهِمْ وَاسْتِحَالَةِ لُغَتِهِمْ، وَسُهُولَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَكَثْرَةِ شُعَرَائِهِمْ، وَكَثْرَةِ مَنْ هَجَاهُ مِنْهُمْ، وَعَارَضَ شُعَرَاءَ أَصْحَابِهِ، وَخُطَبَاءَ أُمَّتِهِ لِأَنَّ سُورَةً وَاحِدَةً وَآيَاتٍ يَسِيرَةً كَانَتْ أَنْقَضَ لِقَوْلِهِ، وَأَفْسَدَ لِأَمْرِهِ، وَأَبْلَغَ فِي تَكْذِيبِهِ وَأَسْرَعَ فِي تَفْرِيقِ أَتْبَاعِهِ مِنْ بَذْلِ النُّفُوسِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْأَوْطَانِ، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ.
وَهَذَا مِنْ جَلِيلِ التَّدْبِيرِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَ قُرَيْشٍ، وَالْعَرَبِ فِي الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ بِطَبَقَاتٍ، وَلَهُمُ الْقَصِيدُ الْعَجِيبُ، وَالرَّجَزُ الْفَاخِرُ، وَالْخُطَبُ الطِّوَالُ الْبَلِيغَةُ، وَالْقِصَارُ الْمُوجَزَةُ، وَلَهُمُ الْأَسْجَاعُ وَالْمُزْدَوَجُ وَاللَّفْظُ الْمَنْثُورُ.
ثُمَّ يَتَحَدَّى بِهِ أَقْصَاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ عَجْزَ أَدْنَاهُمْ، فَمُحَالٌ- أَكْرَمَكَ اللَّهُ- أَنْ يَجْتَمِعَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عَلَى الْغَلَطِ فِي الْأَمْرِ الظَّاهِرِ، وَالْخَطَأِ الْمَكْشُوفِ الْبَيِّنِ مَعَ التَّقْرِيعِ بِالنَّقْصِ، وَالتَّوْقِيفِ عَلَى الْعَجْزِ، وَهُمْ أَشَدُّ الْخَلْقِ أَنَفَةً، وَأَكْثَرُهُمْ مُفَاخَرَةً، وَالْكَلَامُ سَيِّدُ عَمَلِهِمْ، وَقَدِ احْتَاجُوا إِلَيْهِ وَالْحَاجَةُ تَبْعَثُ عَلَى الْحِيلَةِ فِي الْأَمْرِ الْغَامِضِ، فَكَيْفَ بِالظَّاهِرِ، وَكَمَا أَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُطْبِقُوا ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى الْغَلَطِ فِي الْأَمْرِ الْجَلِيلِ الْمَنْفَعَةِ، فَكَذَلِكَ مُحَالٌ أَنْ يَتْرُكُوهُ، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَجِدُونَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ وَهُمْ يَبْذُلُونَ أَكْثَرَ مِنْهُ. انْتَهَى.

.فصل: في وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ:

لَمَّا ثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ الِاهْتِمَامُ بِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ، وَقَدْ خَاضَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا فَبَيْنَ مُحْسِنٍ وَمُسِيءٍ.
فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّحَدِّيَ وَقَعَ بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الذَّاتِ، وَأَنَّ الْعَرَبَ كُلِّفَتْ فِي ذَلِكَ مَا لَا يُطَاقُ، وَبِهِ وَقَعَ عَجْزُهَا، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لَا يُتَصَوَّرُ التَّحَدِّيَ بِهِ‏.
وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ وَقَعَ بِالدَّالِّ عَلَى الْقَدِيمِ وَهُوَ الْأَلْفَاظُ، ثُمَّ زَعَمَ النَّظَّامُ أَنَّ إِعْجَازَهُ بِالصِّرْفَةِ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ صَرَفَ الْعَرَبَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَسَلَبَ عُقُولَهُمْ، وَكَانَ مَقْدُورًا لَهُمْ لَكِنْ عَاقَهُمْ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ فَصَارَ كَسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ‏.
وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ بِدَلِيلِ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} الْآيَةَ [الْإِسْرَاء: 88] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَجْزِهِمْ مَعَ بَقَاءِ قُدْرَتِهِمْ وَلَوْ سُلِبُوا الْقُدْرَةَ لَمْ تَبْقَ فَائِدَةٌ لِاجْتِمَاعِهِمْ لِمَنْزِلَتِهِ مَنْزِلَةَ اجْتِمَاعِ الْمَوْتَى، وَلَيْسَ عَجْزُ الْمَوْتَى مِمَّا يُحْتَفَلُ بِذِكْرِهِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِضَافَةِ الْإِعْجَازِ إِلَى الْقُرْآنِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُعْجِزًا وَلَيْسَ فِيهِ صِفَةُ إِعْجَازٍ بَلِ الْمُعْجِزُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، حَيْثُ سَلَبَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ‏.
وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِالصِّرْفَةِ زَوَالُ الْإِعْجَازِ بِزَوَالِ زَمَانِ التَّحَدِّي، وَخُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَفِي ذَلِكَ خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّ مُعْجِزَةً الرَّسُولِ الْعُظْمَى بَاقِيَةٌ، وَلَا مُعْجِزَةَ بَاقِيَةً سِوَى الْقُرْآنِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ‏: وَمِمَّا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالصِّرْفَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ مُمْكِنَةً، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهَا الصِّرْفَةُ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مُعْجِزًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَنْعِ مُعْجِزًا، فَلَا يَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ‏، قَالَ‏: وَلَيْسَ هَذَا بِأَعْجَبِ مِنْ قَوْلِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّ الْكُلَّ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرُوا عَنْهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِوَجْهِ تَرْتِيبٍ لَوْ تَعَلَّمُوهُ لَوَصَلُوا إِلَيْهِ بِهِ، وَلَا بِأَعْجَبِ مِنْ قَوْلِ آخَرِينَ: إِنَّ الْعَجْزَ وَقَعَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا مَنْ بَعْدَهُمْ فَفِي قُدْرَتِهِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، وَكُلُّ هَذَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ‏.
وَقَالَ قَوْمٌ‏: وَجْهُ إِعْجَازِهِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ‏.
وَقَالَ آخَرُونَ‏: مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَسَائِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ حِكَايَةَ مَنْ شَاهَدَهَا وَحَضَرَهَا‏.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الضَّمَائِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَقَوْلِه: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آلِ عِمْرَانَ: 122]. {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} [الْمُجَادَلَة: 8].
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ‏: وَجْهُ إِعْجَازِهِ مَا فِيهِ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْصِيفِ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمُبَايِنٌ لِأَسَالِيبِ خِطَابَاتِهِمْ‏، قَالَ‏: وَلِهَذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ مُعَارَضَتُهُ‏.
قَالَ‏: وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ الَّتِي أَوْدَعُوهَا فِي الشِّعْرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَخْرِقُ الْعَادَةَ، بَلْ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْعِلْمِ وَالتَّدْرِيبِ وَالتَّصَنُّعِ بِهِ، كَقَوْلِ الشِّعْرِ، وَرَصْفِ الْخُطَبِ وَصِنَاعَةِ الرِّسَالَةِ، وَالْحِذْقِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَلَهُ طَرِيقٌ تُسْلَكُ فَأَمَّا شَأْوُ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ لَهُ مِثَالٌ يُحْتَذَى، وَلَا إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ، وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ مِثْلِهِ اتِّفَاقًا، قَالَ‏: وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ أَظْهَرُ، وَفِي بَعْضِهِ أَدَقُّ وَأَغْمَضُ‏.
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّين: وَجْهُ الْإِعْجَازِ الْفَصَاحَةُ وَغَرَابَةُ الْأُسْلُوبِ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ‏.
وَقَالَ الزَّمَلْكَانِيُّ‏: وَجْهُ الْإِعْجَازِ رَاجِعٌ إِلَى التَّأْلِيفِ الْخَاصِّ بِهِ لَا مُطْلَقِ التَّأْلِيفِ بِأَنِ اعْتَدَلَتْ مُفْرَدَاتُهُ تَرْكِيبًا وَزِنَةً، وَعَلَتْ مُرَكَّبَاتُهُ مَعْنًى بِأَنْ يُوقَعَ كُلُّ فَنٍّ فِي مَرْتَبَتِهِ الْعُلْيَا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ‏: الصَّحِيحُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَالْحُذَّاقُ فِي وَجْهِ إِعْجَازِهِ أَنَّهُ بِنَظْمِهِ وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ وَتَوَالِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحَاطَ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ عِلْمًا فَإِذَا تَرَتَّبَتِ اللَّفْظَةُ مِنَ الْقُرْآنِ، عُلِمَ بِإِحَاطَتِهِ أَيُّ لَفْظَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَلِيَ الْأُولَى وَتُبَيِّنَ الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَعْنَى ثُمَّ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ , وَالْبَشَرُ يَعُمُّهُمُ الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ وَالذُّهُولُ‏.
وَمَعْلُومٌ ضَرُورَةً أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يُحِيطُ بِذَلِكَ، فَبِهَذَا جَاءَ نَظْمُ الْقُرْآنِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْفَصَاحَةِ.
وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏: إِنَّ الْعَرَبَ كَانَ فِي قُدْرَتِهَا الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ فَصُرِفُوا عَنْ ذَلِكَ‏، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ قَطُّ، وَلِهَذَا تَرَى الْبَلِيغَ يُنَقِّحُ الْقَصِيدَةَ أَوِ الْخُطْبَةَ حَوْلًا ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهَا فَيُغَيِّرُ فِيهَا وَهَلُمَّ جَرًّا، وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ نُزِعَتْ مِنْهُ لَفْظَةٌ ثُمَّ أُدِيرَ لِسَانُ الْعَرَبِ عَلَى لَفْظَةٍ أَحْسَنَ مِنْهَا لَمْ يُوجَدْ، وَنَحْنُ تَتَبَيَّنُ لَنَا الْبَرَاعَةُ فِي أَكْثَرِهِ، وَيَخْفَى عَلَيْنَا وَجْهُهَا فِي مَوَاضِعَ لِقُصُورِنَا عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ فِي سَلَامَةِ الذَّوْقِ، وَجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ.
وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَالَمِ بِالْعَرَبِ إِذْ كَانُوا أَرْبَابَ الْفَصَاحَةِ، وَمَظَنَّةَ الْمُعَارَضَةِ كَمَا قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي مُعْجِزَةِ مُوسَى بِالسَّحَرَةِ، وَفِي مُعْجِزَةِ عِيسَى بِالْأَطِبَّاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَجْهِ الشَّهِيرِ أَبْرَعَ مَا تَكُونُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ الَّذِي أَرَادَ إِظْهَارَهُ، فَكَانَ السِّحْرُ قَدِ انْتَهَى فِي مُدَّةِ مُوسَى إِلَى غَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ الطِّبُّ فِي زَمَنِ عِيسَى وَالْفَصَاحَةُ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.
وَقَالَ حَازِمٌ فِي مِنْهَاجٍ الْبُلَغَاء: وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ اسْتَمَرَّتِ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي جَمِيعِهِ اسْتِمْرَارًا لَا يُوجَدُ لَهُ فَتْرَةٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِمْ لَا تَسْتَمِرُّ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِي جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي الْعَالِي مِنْهُ، إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الْمَعْدُودِ، ثُمَّ تَعْرِضُ الْفَتَرَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ، فَيَنْقَطِعُ طَيِّبُ الْكَلَامِ وَرَوْنَقُهُ، فَلَا تَسْتَمِرُّ لِذَلِكَ الْفَصَاحَةُ فِي جَمِيعِهِ بَلْ تُوجَدُ فِي تَفَارِيقَ وَأَجْزَاءٍ مِنْهُ‏.
وَقَالَ الْمُرَّاكِشِيُّ فِي شَرْحِ الْمِصْبَاح: الْجِهَةُ الْمُعْجِزَةُ فِي الْقُرْآنِ تُعْرَفُ بِالتَّفَكُّرِ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ كَمَا اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ فِي تَعْرِيفِهِ مَا يُحْتَرَزُ بِهِ عَنِ الْخَطَأِ فِي تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى، وَعَنْ تَعْقِيدِهِ وَيُعْرَفُ بِهِ وُجُوهُ تَحْسِينِ الْكَلَامِ بَعْدَ رِعَايَةِ تَطْبِيقِهِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ; لِأَنَّ جِهَةَ إِعْجَازِهِ لَيْسَتْ مُفْرَدَاتِ أَلْفَاظِهِ وَإِلَّا لَكَانَتْ قَبْلَ نُزُولِهِ مُعْجِزَةً، وَلَا مُجَرَّدَ تَأْلِيفِهَا، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ تَأْلِيفٍ مُعْجِزًا، وَلَا إِعْرَابَهَا وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ مُعْرَبٍ مُعْجِزًا، وَلَا مُجَرَّدَ أُسْلُوبِهِ وَإِلَّا لَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِأُسْلُوبِ الشِّعْرِ مُعْجِزًا، وَالْأُسْلُوبُ الطَّرِيقُ، وَلَكَانَ هَذَيَانُ مُسَيْلِمَةَ مُعْجِزًا، وَلِأَنَّ الْإِعْجَازَ يُوجَدُ دُونَهُ أَي: الْأُسْلُوبَ فِي نَحْو: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يُوسُفَ: 80]. {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الْحِجْر: 94].
وَلَا بِالصَّرْفِ عَنْ مُعَارَضَتِهِمْ; لِأَنَّ تَعَجُّبَهُمْ كَانَ مِنْ فَصَاحَتِهِ، وَلِأَنَّ مُسَيْلِمَةَ وَابْنَ الْمُقَفَّعِ وَالْمَعَرِّيَّ وَغَيْرَهُمْ قَدْ تَعَاطَوْهَا، فَلَمْ يَأْتُوا إِلَّا بِمَا تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ‏، وَيُضْحَكُ مِنْهُ فِي أَحْوَالِ تَرْكِيبِهِ، وَبِهَا‏‏- أَيْ: بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ- أَعْجَزَ الْبُلَغَاءَ وَأَخْرَسَ الْفُصَحَاءَ، فَعَلَى إِعْجَازِهِ دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ عَجَزَتْ عَنْهُ وَهُوَ بِلِسَانِهَا فَغَيْرُهَا أَحْرَى، وَدَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ مُقَدِّمَتُهُ التَّفَكُّرُ فِي خَوَاصِّ تَرْكِيبِهِ، وَنَتِيجَتُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنَ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا‏.
وَقَالَ الْأَصْبِهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِه: اعْلَمْ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ ذُكِرَ مِنْ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا إِعْجَازٌ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ، وَالثَّانِي بِصَرْفِ النَّاسِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ‏.
فَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ‏.
أَمَّا الْإِعْجَازُ الْمُتَعَلِّقُ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِعُنْصُرِهِ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، فَإِنَّ أَلْفَاظَهُ أَلْفَاظُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يُوسُفَ: 2]. {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ} [الشُّعَرَاء: 195]. وَلَا بِمَعَانِيهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهَا مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشُّعَرَاء: 196]. وَمَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَبَيَانِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، فَإِعْجَازٌ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قُرْآنٌ، بَلْ لِكَوْنِهَا حَاصِلَةٌ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَعْلِيمٍ وَتَعَلُّمٍ، وَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ إِخْبَارًا بِالْغَيْبِ سَوَاءً كَانَ بِهَذَا النَّظْمِ أَوْ بِغَيْرِهِ، مُورَدًا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِلُغَةٍ أُخْرَى، بِعِبَارَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ، فَإِذًا النَّظْمُ الْمَخْصُوصُ صُورَةُ الْقُرْآنِ وَاللَّفْظُ وَالْمَعْنَى عُنْصُرُهُ، وَبِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّيْءِ وَاسْمُهُ، لَا بِعُنْصُرِهِ كَالْخَاتَمِ وَالْقُرْطِ وَالسُّوَارِ، فَإِنَّهُ بِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا، لَا بِعُنْصُرِهَا الَّذِي هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَدِيدُِ، فَإِنَّ الْخَاتَمَ الْمُتَّخَذَ مِنَ الذَّهَبِ وَمِنَ الْفِضَّةِ وَمِنَ الْحَدِيدِ يُسَمَّى خَاتَمًا، وَإِنْ كَانَ الْعُنْصُرُ مُخْتَلِفًا، وَإِنِ اتُّخِذَ خَاتَمٌ وَقُرْطٌ وَسُوَارٌ مِنْ ذَهَبٍ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا بِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا، وَإِنْ كَانَ الْعُنْصُرُ وَاحِدًا‏.
قَالَ‏: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِعْجَازَ الْمُخْتَصَّ بِالْقُرْآنِ يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ الْمَخْصُوصِ، وَبَيَانَ كَوْنِ النَّظْمِ مُعْجِزًا يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ نَظْمِ الْكَلَامِ، ثُمَّ بَيَانِ أَنَّ هَذَا النَّظْمَ مُخَالِفٌ لِنَظْمِ مَا عَدَاهُ، فَنَقُولُ‏: مَرَاتِبُ تَأْلِيفِ الْكَلَامِ خَمْسٌ‏:
الْأُولَى: ضَمُّ الْحُرُوفِ الْمَبْسُوطَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ لِتَحْصُلَ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ: الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ‏.
‏وَالثَّانِيَةُ‏: تَأْلِيفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، لِتَحْصُلَ الْجُمَلُ الْمُفِيدَةُ، وَهُوَ النَّوْعُ الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ جَمِيعًا فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَيُقَالُ لَهُ الْمَنْثُورُ مِنَ الْكَلَامِ.
وَالثَّالِثَةُ‏: ضَمُّ بَعْضِ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ ضَمًّا لَهُ مَبَادٍ وَمَقَاطِعُ، وَمَدَاخِلُ وَمَخَارِجُ، وَيُقَالُ لَهُ الْمَنْظُومُ‏.
وَالرَّابِعَةُ‏: أَنْ يُعْتَبَرَ فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ مَعَ ذَلِكَ تَسْجِيعٌ، وَيُقَالُ لَهُ الْمُسَجَّعُ‏.
‏وَالْخَامِسَةُ‏: أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ وَزْنٌ، وَيُقَالَ لَهُ: الشِّعْرُ.
وَالْمَنْظُومُ إِمَّا مُحَاوَرَةٌ وَيُقَالُ لَهُ: الْخَطَابَةُ، وَإِمَّا مُكَاتَبَةٌ وَيُقَالُ لَهُ: الرِّسَالَةُ‏.
فَأَنْوَاعُ الْكَلَامِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ نَظْمٌ مَخْصُوصٌ، وَالْقُرْآنُ جَامِعٌ لِمَحَاسِنِ الْجَمِيعِ عَلَى نَظْمٍ غَيْرِ نَظْمِ شَيْءٍ مِنْهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ: رِسَالَةٌ، أَوْ خَطَابَةٌ، أَوْ شِعْرٌ، أَوْ سَجْعٌ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَلَامٌ وَالْبَلِيغُ إِذَا قَرَعَ سَمْعَهُ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَدَاهُ مِنَ النَّظْمِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فُصِّلَتْ: 41، 42]. تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَأْلِيفَهُ لَيْسَ عَلَى هَيْئَةِ نَظْمٍ يَتَعَاطَاهُ الْبَشَرُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُغَيَّرَ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَحَالَةِ الْكُتُبِ الْأُخَرِ‏.
قَالَ‏: وَأَمَّا الْإِعْجَازُ الْمُتَعَلِّقُ بِصَرْفِ النَّاسِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، فَظَاهِرٌ أَيْضًا إِذَا اعْتُبِرَ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ صِنَاعَةٍ مَحْمُودَةٍ كَانَتْ أَوْ مَذْمُومَةٍ إِلَّا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مُنَاسَبَاتٌ خَفِيَّةٌ، وَاتِّفَاقَاتٌ حَمْلِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَاحِدَ يُؤْثِرُ حِرْفَةً مِنَ الْحِرَفِ فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ بِمُلَابَسَتِهَا، وَتُطِيعُهُ قُوَاهُ فِي مُبَاشَرَتِهَا فَيَقْبَلُهَا بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ، وَيُزَاوِلُهَا بِاتِّسَاعِ قَلْبٍ، فَلَمَّا دَعَا اللَّهُ أَهْلَ الْبَلَاغَةِ وَالْخَطَابَةِ الَّذِينَ يَهِيمُونَ فِي كُلِّ وَادٍ مِنَ الْمَعَانِي بِسَلَاطَةِ لِسَانِهِمْ إِلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَتَصَدَّوْا لِمُعَارَضَتِهِ لَمْ يَخْفَ عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ أَنَّ صَارِفًا إِلَهِيًّا صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَيُّ إِعْجَازٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافَّةُ الْبُلَغَاءِ عَجَزَةً فِي الظَّاهِرِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَصْرُوفَةً فِي الْبَاطِنِ عَنْهَا انْتَهَى.
وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي الْمِفْتَاح: اعْلَمْ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ كَاسْتِقَامَةِ الْوَزْنِ تُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا، وَكَالْمَلَاحَةِ، وَكَمَا يُدْرَكُ طَيِّبُ النَّغَمِ الْعَارِضِ لِهَذَا الصَّوْتِ، وَلَا يُدْرَكُ تَحْصِيلُهُ لِغَيْرِ ذَوِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ إِلَّا بِإِتْقَانِ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالتَّمْرِينِ فِيهِمَا‏.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ‏: سُئِلَ بُنْدَارٌ الْفَارِسِيُّ عَنْ مَوْضِعِ الْإِعْجَازِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ‏: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا حَيْفٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِقَوْلِكَ: مَا مَوْضِعُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ؟ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِنْسَانِ بَلْ مَتَى أَشَرْتَ إِلَى جُمْلَتِهِ فَقَدْ حَقَّقْتَهُ، وَدَلَّلْتَ عَلَى ذَاتِهِ، كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لِشَرَفِهِ لَا يُشَارُ إِلَى شَيْءٍ فِيهِ إِلَّا وَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى آيَةً فِي نَفْسِهِ، وَمُعْجِزَةً لِمُحَاوَلِهِ، وَهُدًى لِقَائِلِهِ، وَلَيْسَ فِي طَاقَةِ الْبَشَرِ الْإِحَاطَةُ بِأَغْرَاضِ اللَّهِ فِي كَلَامِهِ، وَأَسْرَارِهِ فِي كِتَابِهِ، فَلِذَلِكَ حَارَتِ الْعُقُولُ، وَتَاهَتِ الْبَصَائِرُ عِنْدَهُ‏.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ‏: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ لَكِنْ صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَفْصِيلُهَا وَصَغَوْا فِيهِ إِلَى حُكْمِ الذَّوْقِ‏.
قَالَ‏: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَجْنَاسَ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَرَاتِبَهَا فِي دَرَجَاتِ الْبَيَانِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَمِنْهَا الْبَلِيغُ الرَّصِينُ الْجَزْلُ، وَمِنْهَا الْفَصِيحُ الْقَرِيبُ السَّهْلُ، وَمِنْهَا الْجَائِزُ الطَّلْقُ الرَّسْلُ‏، وَهَذِهِ أَقْسَامُ الْكَلَامِ الْفَاضِلِ الْمَحْمُودِ‏.
فَالْأَوَّلُ أَعْلَاهَا وَالثَّانِي أَوْسَطُهَا وَالثَّالِثُ أَدْنَاهَا وَأَقْرَبُهَا‏.
فَحَازَتْ بَلَاغَاتُ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حِصَّةً، وَأَخَذَتْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ شُعْبَةً فَانْتَظَمَ لَهَا بِانْتِظَامِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ نَمَطٌ مِنَ الْكَلَامِ يَجْمَعُ صِفَتَيِ الْفَخَامَةِ وَالْعُذُوبَةِ، وَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي نُعُوتِهِمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ، لِأَنَّ الْعُذُوبَةَ نِتَاجُ السُّهُولَةِ، وَالْجَزَالَةَ وَالْمَتَانَةَ يُعَالِجَانِ نَوْعًا مِنَ الزُّعُورَةِ، فَكَانَ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ فِي نَظْمِهِ مَعَ نُبُوِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ فَضِيلَةً خُصَّ بِهَا الْقُرْآنُ لِيَكُونَ آيَةً بَيِّنَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.
وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَى الْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ لِأُمُورٍ‏.
مِنْهَا‏: أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَوْضَاعِهَا الَّتِي هِيَ ظُرُوفُ الْمَعَانِي، وَلَا تُدْرِكُ أَفْهَامُهُمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَلَا تَكْمُلُ مَعْرِفَتُهُمْ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ وُجُوهِ النُّظُومِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ ائْتِلَافُهَا، وَارْتِبَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَيَتَوَاصَلُوا بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ مِنَ الْأَحْسَنِ مِنْ وُجُوهِهَا إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَة:
لَفْظٌ حَاصِلٌ، وَمَعْنًى بِهِ قَائِمٌ، وَرِبَاطٌ لَهُمَا نَاظِمٌ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْقُرْآنَ وَجَدْتَ هَذِهِ مِنْهُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ، حَتَّى لَا تَرَى شَيْئًا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَفْصَحَ وَلَا أَجْزَلَ وَلَا أَعْذَبَ مِنْ أَلْفَاظِهِ، وَلَا تَرَى نَظْمًا أَحْسَنَ تَأْلِيفًا، وَأَشَدَّ تَلَاؤُمًا وَتَشَاكُلًا مِنْ نَظْمِهِ‏. وَأَمَّا مَعَانِيهِ فَكُلُّ ذِي لُبٍّ يَشْهَدُ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ فِي أَبْوَابِهِ وَالتَّرَقِّي إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِهِ.
وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْفَضَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، فَأَمَّا أَنْ تُوجَدَ مَجْمُوعَةً فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ: فَلَمْ تُوجَدْ إِلَّا فِي كَلَامِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ، فَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا صَارَ مُعْجِزًا; لِأَنَّهُ جَاءَ بِأَفْصَحِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحْسَنِ نُظُومِ التَّأْلِيفِ، مُضَمَّنًا أَصَحَّ الْمَعَانِي، مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ لَهُ فِي صِفَاتِهِ، وَدُعَائِهِ إِلَى طَاعَتِهِ وَبَيَانٍ لِطَرِيقِ عِبَادَتِهِ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ، وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ، وَمِنْ وَعْظٍ وَتَقْوِيمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَإِرْشَادٍ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَزَجْرٍ عَنْ مَسَاوِيهَا، وَاضِعًا كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا مَوْضِعَهُ الَّذِي لَا يُرَى شَيْءٌ أَوْلَى مِنْهُ، وَلَا يُتَوَهَّمُ فِي صُورَةِ الْعَقْلِ أَمْرٌ أَلْيَقُ بِهِ مِنْهُ، مُودَعًا أَخْبَارَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَمَا نَزَلَ مِنْ مَثُلَاتِ اللَّهِ بِمَنْ مَضَى وَعَانَدَ مِنْهُمْ، مُنْبِئًا عَنِ الْكَوَائِنِ الْمُسْتَقْبِلَةِ فِي الْأَعْصَارِ الْآتِيَةِ مِنَ الزَّمَانِ، جَامِعًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالْمُحْتَجِّ لَهُ، وَالدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ آكَدَ لِلُزُومِ مَا دَعَا عَلَيْهِ، وَإِنْبَاءٍ عَنْ وُجُوبِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ أَشْتَاتِهَا حَتَّى تَنْتَظِمَ وَتُنَسَّقَ أَمْرٌ تَعْجِزُ عَنْهُ قُوَى الْبَشَرِ، وَلَا تَبْلُغُهُ قُدْرَتُهُمْ، فَانْقَطَعَ الْخَلْقُ دُونَهُ وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ، أَوْ مُنَاقَضَتِهِ فِي شَكْلِهِ، ثُمَّ صَارَ الْمُعَانِدُونَ لَهُ يَقُولُونَ مَرَّةً: إِنَّهُ شِعْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَنْظُومًا، وَمَرَّةً أَنَّهُ سِحْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَعْجُوزًا عَنْهُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ لَهُ وَقْعًا فِي الْقُلُوبِ وَقَرْعًا فِي النُّفُوسِ يُرْهِبُهُمْ وَيُحَيِّرُهُمْ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِهِ نَوْعًا مِنَ الِاعْتِرَافِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا‏: إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَكَانُوا مَرَّةً بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الْفُرْقَان: 5]. مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهُمْ أُمِّيٌّ، وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُمْلِي أَوْ يَكْتُبُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا الْعِنَادُ وَالْجَهْلُ وَالْعَجْزُ‏.
ثُمَّ قَالَ‏: وَقَدْ قُلْتُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَجْهًا ذَهَبَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ صَنِيعُهُ فِي الْقُلُوبِ، وَتَأْثِيرُهُ فِي النُّفُوسِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْمَعُ كَلَامًا غَيْرَ الْقُرْآنِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا، إِذَا قَرَعَ السَّمْعَ خَلَصَ لَهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ فِي حَالِ ذَوِي الرَّوْعَةِ وَالْمَهَابَةِ فِي حَالٍ آخَرَ، مَا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الْحَشْر: 21]. وَقَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزُّمَر: 23].
وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ‏: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وَجْهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ وُجُوهًا كَثِيرَةً كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَمَا بَلَغُوا فِي وُجُوهِ إِعْجَازِهِ جُزْءًا وَاحِدًا مِنْ عُشْرِ مِعْشَارِهِ.
فَقَالَ قَوْمٌ‏: هُوَ الْإِيجَازُ مَعَ الْبَلَاغَةِ‏.
وَقَالَ آخَرُونَ‏: هُوَ الْبَيَانُ وَالْفَصَاحَةُ‏.
وَقَالَ آخَرُونَ‏: هُوَ الرَّصْفُ وَالنَّظْمُ‏.
وَقَالَ آخَرُونَ‏: هُوَ كَوْنُهُ خَارِجًا عَنْ جِنْسِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَالْخُطَبِ وَالشِّعْرِ مَعَ كَوْنِ حُرُوفِهِ فِي كَلَامِهِمْ وَمَعَانِيهِ فِي خِطَابِهِمْ، وَأَلْفَاظِهِ مِنْ جِنْسِ كَلِمَاتِهِمْ، وَهُوَ بِذَاتِهِ قَبِيلٌ غَيْرُ قَبِيلِ كَلَامِهِمْ، وَجِنْسٌ آخَرُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ أَجْنَاسِ خِطَابِهِمْ، حَتَّى إِنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَعَانِيهِ، وَغَيَّرَ حُرُوفَهُ أَذْهَبَ رَوْنَقَهُ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى حُرُوفِهِ وَغَيَّرَ مَعَانِيهِ، أَبْطَلَ فَائِدَتَهُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَبْلَغَ دَلَالَةً عَلَى إِعْجَازِهِ‏.
وَقَالَ آخَرُونَ‏: هُوَ كَوْنُ قَارِئِهِ لَا يَكِلُّ، وَسَامِعُهُ لَا يَمَلُّ، وَإِنْ تَكَرَّرَتْ عَلَيْهِ تِلَاوَتُهُ‏.
وَقَالَ آخَرُونَ‏: هُوَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ‏.
وَقَالَ آخَرُونَ‏: هُوَ مَا فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْأُمُورِ بِالْقَطْعِ‏.
وَقَالَ آخَرُونَ‏: هُوَ كَوْنُهُ جَامِعًا لِعُلُومٍ يَطُولُ شَرْحُهَا وَيَشُقُّ حَصْرُهَا. انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَان: أَهْلُ التَّحْقِيقِ عَلَى أَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ بِجَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَقْوَالِ، لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَإِنَّهُ جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَلَا مَعْنًى لِنِسْبَتِهِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْجَمِيعِ، بَلْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَسْبِقُ.
فَمِنْهَا‏: الرَّوْعَةُ الَّتِي لَهُ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ وَأَسْمَاعِهِمْ، سَوَاءٌ الْمُقِرُّ وَالْجَاحِدُ‏.
وَمِنْهَا‏: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا فِي أَسْمَاعِ السَّامِعِينَ وَعَلَى أَلْسِنَةِ الْقَارِئِينَ‏.
وَمِنْهَا‏: جَمْعُهُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَزَالَةِ وَالْعُذُوبَةِ، وَهُمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ غَالِبًا فِي كَلَامِ الْبَشَرِ‏.
وَمِنْهَا‏: جَعْلُهُ آخِرُ الْكُتُبِ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ، وَجَعْلُ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النَّمْل: 76].
وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ‏: وُجُوهُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ تَظْهَرُ مِنْ جِهَاتِ تَرْكِ الْمُعَارَضَةِ، مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ، وَالتَّحَدِّي لِلْكَافَّةِ، وَالصِّرْفَةِ، وَالْبَلَاغَةِ، وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَنَقْضِ الْعَادَةِ، وَقِيَاسِهِ بِكُلِّ مُعْجِزَةٍ‏.
قَالَ‏: وَنَقْضُ الْعَادَةِ هُوَ أَنَّ الْعَادَةَ كَانَتْ جَارِيَةً بِضُرُوبٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مَعْرُوفَةٍ‏: مِنْهَا الشِّعْرُ، وَمِنْهَا السَّجْعُ، وَمِنْهَا الْخُطَبُ، وَمِنْهَا الرَّسَائِلُ، وَمِنْهَا الْمَنْثُورُ الَّذِي يَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَدِيثِ، فَأَتَى الْقُرْآنُ بِطَرِيقَةٍ مُفْرَدَةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْعَادَةِ لَهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْحُسْنِ تَفُوقُ بِهِ كُلَّ طَرِيقَةٍ، وَيَفُوقُ الْمَوْزُونُ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الْكَلَامِ.
قَالَ‏: وَأَمَّا قِيَاسُهُ بِكُلِّ مُعْجِزَةٍ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ إِعْجَازُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إِذَا كَانَ سَبِيلُ فَلْقِ الْبَحْرِ وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى فِي ذَلِكَ سَبِيلًا وَاحِدًا فِي الْإِعْجَازِ، إِذْ خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ، وَصَدَّ الْخَلْقَ فِيهِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ‏.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَا‏: اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنْطَوٍ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْجَازِ كَثِيرَةٍ وَتَحْصِيلُهَا مِنْ جِهَةِ ضَبْطِ أَنْوَاعِهَا فِي أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ‏.
أَوَّلُهَا‏: حُسْنُ تَأْلِيفِهِ وَالْتِئَامُ كَلِمِهِ وَفَصَاحَتُهُ، وَوُجُوهُ إِيجَازِهِ، وَبَلَاغَتُهُ الْخَارِقَةُ عَادَةُ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ فُرْسَانُ الْكَلَامِ، وَأَرْبَابُ هَذَا الشَّأْنِ‏.
وَالثَّانِي‏: صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ، وَالْأُسْلُوبُ الْغَرِيبُ الْمُخَالِفُ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهَاجِ نَظْمِهَا وَنَثْرِهَا الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ مَقَاطِعُ آيَاتِهِ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ فَوَاصِلُ كَلِمَاتِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ نَظِيرٌ لَهُ‏.
قَالَ‏: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ بِذَاتِهَا، وَالْأُسْلُوبِ الْغَرِيبِ بِذَاتِهِ، نَوْعُ إِعْجَازٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، لَمْ تَقْدِرِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهَا، مُبَايِنٌ لِفَصَاحَتِهَا وَكَلَامِهَا، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي مَجْمُوعِ الْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ‏.
الثَّالِثُ‏: مَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَمَا لَمْ يَكُنْ فَوُجِدَ كَمَا وَرَدَ‏.
الرَّابِعُ‏: مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ، وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ، وَالشَّرَائِعِ الدَّائِرَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إِلَّا الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَطَعَ عُمْرَهُ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ، فَيُورِدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَأْتِي بِهِ عَلَى نَصِّهِ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ‏.
قَالَ‏: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نِزَاعَ فِيهَا‏.
وَمِنَ الْوُجُوهِ فِي إِعْجَازِهِ غَيْرُ ذَلِكَ أَيْ: وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْمٍ فِي قَضَايَا وَإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهَا فَمَا فَعَلُوا وَلَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ لِلْيَهُود: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [الْبَقَرَة: 94، 95]. فَمَا تَمَنَّاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهَذَا الْوَجْهُ دَاخِلٌ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ‏.
وَمِنْهَا‏: الرَّوْعَةُ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ، وَالْهَيْبَةُ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ، وَقَدْ أَسْلَمَ جَمَاعَةٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتٍ مِنْهُ، كَمَا وَقَعَ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ قَالَ‏: فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} إِلَى قَوْلِه: {الْمُصَيْطِرُونَ} [الطُّور: 35- 37]. كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ‏، قَالَ‏: وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي‏.
وَقَدْ مَاتَ جَمَاعَةٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتٍ مِنْهُ أُفْرِدُوا بِالتَّصْنِيفِ‏.
ثُمَّ قَالَ‏: وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لَا يُعْدَمُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا مَعَ مَا تَكَفَّلَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ‏.
وَمِنْهَا‏: أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّهُ، وَسَامِعُهُ لَا يَمُجُّهُ، بَلْ الْإِكْبَابُ عَلَى تِلَاوَتِهِ يَزِيدُهُ حَلَاوَةً، وَتَرْدِيدُهُ يُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةً، وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ يُعَادَى إِذَا أُعِيدَ، وَيُمَلُّ مَعَ التَّرْدِيدِ، وَلِهَذَا وَصَفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ: «لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ».
وَمِنْهَا‏: جَمْعُهُ لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَمْ يَجْمَعْهَا كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ وَلَا أَحَاطَ بِعِلْمِهَا أَحَدٌ فِي كَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ وَأَحْرُفٍ مَعْدُودَةٍ‏. قَالَ‏: وَهَذَا الْوَجْهُ دَاخِلٌ فِي بَلَاغَتِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُعَدَّ فَنًّا مُفْرَدًا فِي إِعْجَازِهِ‏.
قَالَ‏: وَالْأَوْجُهُ الَّتِي قَبْلَهَا تُعَدُّ فِي خَوَاصِّهِ وَفَضَائِلِهِ لَا إِعْجَازِهِ، وَحَقِيقَةُ الْإِعْجَازِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ فَلْيُعْتَمَدْ عَلَيْهَا انْتَهَى.